فصل: الحكم الأول: ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجوه الإعراب:

أولًا- قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} الجار والمجرور خبر مقدم، و{رزقهن} مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و{بالمعروف} متعلق بت {رزقهن}.
ثانيًا- قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} لا ناهية جازمة و{تضارّ} أصلها {تضارر} سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و{والدة} فاعل والمفعول به محذوف تقديره: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها.
ثالثًا- قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه.
قال الواحدي: أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وجه الارتباط في الآيات السابقة:
مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح، والطلاق، والعدة، والرجعة، والعضل، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع، لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقامًا من الزوج وإيذاءً له، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن، والجملة ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] والتعبير عنهن بلفظ {الوالدات} دون قوله: والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة.
اللطيفة الثانية:
العدول عن قوله: وعلى الوالد إلى قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {المولود له} دون الوالد؟ قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات.
اللطيفة الثالثة:
قال أبو حيان: وصف الله تعالى الحولين بالكمال {حولين كاملين} دفعًا للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين، إذ يقال: أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
اللطيفة الرابعة:
قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين {وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} و{وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق، فالولد ليس أجنبيًا عن الوالدين، هذه أمه وذاك أبوه، فمن حقهما أن يشفقا عليه، ولا تكون العداوة بينهما سببًا للإضرار بالولد.
قال العلامة أبو السعود: إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه، ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارّا بسببه.
اللطيفة الخامسة:
في قوله تعالى: {أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} جاء بضمير التثنية للغائب، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟

أ- قال بعضهم: لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات، وهو قول مجاهد والضحاك، والسدّي. واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن، ولو كنّ أزواجًا لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها.
ب- وقال بعضهم: إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات.
ج- وقال آخرون: المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات، عملًا بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في البحر المحيط.

.الحكم الثاني: هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} فهو أمر في صورة الخبر أي: ليرضعن أولادهن.
وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق، ولها أجرة المثل.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعًا بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر مرضعة ترضعه، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] ولو كان الإرضاع واجبًا لكلفها الشرع به، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر.

.الحكم الثالث: ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟

ذهب الجمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين».
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
قال العلامة القرطبي: والصحيح الأول لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين، ولقوله عليه السلام: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له، وقد روي عن عائشة القول به، وبه يقول: الليث بن سعد وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه الرجوع عنه.

.الحكم الرابع: كيف تقدر نفقة المرضع؟

دل قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} على وجوب النفقة للمرضع على الزوج، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وقد دل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله} [الطلاق: 7] وأخذ الفقهاء من آية البقرة {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وجوب النفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، فتجب نفقته على أبيه ما دام صغيرًا لم يبلغ سن التكليف.
قال الجصاص في تفسيره أحكام القرآن: وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين:
أحدهما: أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه.
والثاني: أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان.
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم، وهما جميعًا وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلًا في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار، والكبار الزمني، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه.

.الحكم الخامس: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}؟

واختلف المفسّرون في المراد من لفظ {الوارث} في الآية الكريمة على أقوال:
أ- قال بعضهم: المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات، وهو قول عطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة، وقال آخرون: وارثه من الرجال أو النساء وهو قول أحمد وإسحاق، وقال آخرون: وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
ب- وقال بعضهم: المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن، والسُدّي.
ج- وقال بعضهم: المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري.
د- وقال آخرون: المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال.
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- على الأمهات إرضاع الأبناء، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل.
2- نسب الأولاد للآباء، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق.
3- النفقة على قدر طاقة الوالد عسرًا ويسرًا ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
4- نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم.
5- فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب.. وليس هناك لبن يعادل لبن الأم، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها، ومعرفة أخلاقها وطبائعها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دمًا له ينموا به اللحم، ويُنشز العظم، فيؤثر فيه جسميًا وخلقيًا، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟!
والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان، فينشأ مجبولًا على الرحمة، محبًا للخير، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم، يكونون معقّدين، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية إلى هذا الأمر، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع.
فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم!! حتى الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به، قد صار نساء الأغنياء منهن في هذا الزمان يرغبن عنه ترفعًا وطمعًا في السمن وبقاء الجمال وكل هذا مقام لسنة الفطرة، ومفسد لتربية الأولاد، ولسنا نرى دينًا تعرض لمحاسن تربية النشء مثل ما تعرض له الإسلام، فاللهم وفقنا للاهتداء بهديه الكريم إنك سميع مجيب الدعاء. اهـ.